فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (48- 49):

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}
{وَيُعَلّمُهُ الكتاب} أي الكتابةَ أو جنسَ الكتُبِ الإلهية {والحكمة} أي العلومَ وتهذيبَ الأخلاق {والتوراة والإنجيل} إفرادُهما بالذكر على تقدير كونِ المرادِ بالكتاب جنسَ الكتب المنزلِ لزيادة فضلِهما وإنافتِهما على غيرهما، والجملةُ عطف على {يُبَشّرُكِ} أو على {وَجِيهاً} أو على {يَخْلُقُ} أو كلام مبتدأ سيق تطييباً لقلبها وإزاحةً لما أهمّها من خوف اللائمةِ لمّا علِمَت أنها تلِدُ من غير زوجٍ، وقرئ {ونعلِّمه} بالنون {وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل} منصوبٌ بمُضْمر يعود إليه المعنى معطوفٌ على يُعلّمه أي ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيلَ أي كلِّهم، وقال بعضُ اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين ثم قيل: كان رسولاً حال الصِّبا وقيل: بعد البلوغ، وكان أولَ أنبياءِ بني إسرائيلَ يوسفُ عليه الصلاة والسلام وآخِرُهم عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل: أولُهم موسى وآخِرُهم عيسى عليهم الصلاة والسلام وقوله تعالى: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} معمولٌ لرسولاً لما فيه من معنى النُطقِ أي رسولاً ناطقاً بأني إلخ وقيل: منصوبٌ بمضمر معمولٍ لقول مضمرٍ معطوفٍ على يعلِّمه أي ويقول: أُرسِلتُ رسولاً بأني قد جئتُكم إلخ وقيل: معطوفٌ على الأحوال السابقةِ، ولا يقدَحُ فيه كونُها في حكم الغَيبة مع كونِ هذا في حكم التكلّم لِما عرَفتَ من أن فيه معنى النُطقِ، كأنه قيل: حالَ كونه وجيهاً ورسولاً ناطقاً بأني إلخ وقرئ {ورسولٍ} بالجر عطفاً على {كَلِمَةَ} والباء في قوله تعالى: {بِآيَةٍ} متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من فاعل الفعلِ على أنها للملابسة، والتنوينُ للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها وكثرتها وقرئ {بآيات}. أو بـ {جئتُكم} على أنها للتعدية ومِنْ في قوله تعالى: {مّن رَّبّكُمْ} لابتداء الغاية مجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفةً لآيةٍ أي قد جئتُكم ملتبساً بآية عظيمةٍ كائنةٍ من ربكم أو أتيتكم بآية عظيمة كائنة منه تعالى والتعرضُ لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين لتأكيد إيجاب الامتثالِ بما سيأتي من الأوامر وقولُه تعالى: {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} بدلٌ من قوله تعالى: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} ومحلُه النصبُ على نزع الجارِّ عند سيبويهِ والفراء، والجرُّ على رأي الخليلِ والكسائيّ، أو بدلٌ من آية وقيل: منصوبٌ بفعل مقدرٍ أي أعني أني إلخ وقيل: مرفوعٌ على أنه خبرُ مبتدإ محذوفٍ أي هي {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ} وقرئ بكسر الهمزةِ على الاستئناف أي أقدّرُ لكم أي لأجل تحصيلِ إيمانِكم ودفعِ تكذيبِكم إيايَ من الطين شيئاً مثلَ صورةِ الطير {فَأَنفُخُ فِيهِ} الضمير للكاف أي في ذلك الشيءِ المماثلِ لهيئة الطيرِ، وقرئ {فأنفخُ فيها} على أن الضميرَ للهيئة المقدّرةِ أي أخلُق لكم من الطين هيئةً كهيئة الطيرِ فأنفخُ فيها {فَيَكُونُ طَيْرًا} حياً طياراً كسائر الطيور {بِإِذُنِ الله} بأمرِه تعالى أشارَ عليه الصلاة والسلام بذلك إلى أن إحياءَه من الله تعالى لا منه، قيل: لم يَخْلُقْ غيرَ الخفاش، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لما ادعى النبوةَ وأظهر المعجزاتِ طالبوه بخلق الخفاشِ فأخذ طيناً وصوَّره ونفخَ فيه فإذا هو يطيرُ بين السماء والأرض، قال وهْبٌ: «كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز من خلق الله تعالى»، قيل: إنما طالبوه خلق الخفاشِ لأنه أكملُ الطير خلقاً وأبلغ دلالة على القدرة لأن له ثُدِيّاً وأسناناً وهي تحيض وتطُهر وتلِد كسائر الحيوان وتضحك كا يضحك الإنسانُ وتطير بغير ريش ولا تُبصِرُ في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما ترى في ساعتين: ساعةٍ بعد الغروب وساعةٍ بعد طلوع الفجر وقيل: خَلَق أنواعاً من الطير {وَأُبْرِىء الاكمه} أي الذي وُلد أعمى أو الممسوحُ العين {والابرص} المبتلى بالبَرَص، لم تكن العربُ تنفِرُ من شيءٍ نَفْرتَها منه ويقال له: الوَضَح أيضاً، وتخصيصُ هذين الداءين لأنهما مما أعيا الأطباءَ وكانوا في غاية الحَذاقةِ في زمنه عليه الصلاة والسلام فأراهم الله تعالى المعجزةَ من ذلك الجنس.
روي أنه عليه الصلاة والسلام ربما كان يجتمعُ عليه ألوفٌ من المرضى مَنْ أطاق منهم أتاه ومن لم يُطِقْ أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداويه إلا بالدعاء {وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل} كرَّره مبالغةً في دفع وَهْمِ مَنْ توهّم فيه اللاهوتية. قال الكلبيُّ: كان عليه الصلاة والسلام يُحيي الموتى بيا حيُّ يا قيُّومُ، أحيا عازَرَ وكان صديقاً له فعاش وولد له ومر على ابن عجوز ميت فدعا الله تعالى فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وبقي وولد له وبنت العاشر أحياها وولدت بعد ذلك فقالوا: إنك تحيي من كان قريبَ العهدِ من الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتةٌ فأحْييِ لنا سامَ بنَ نوحٍ فقال: دُلوني على قبره ففعلوا فقام على قبره فدعا الله عز وجل فقام من قبره وقد شاب رأسُه فقال عليه الصلاة والسلام: كيف شِبْتَ ولم يكن في زمانكم شيبٌ؟ قال: يا روحَ الله لما دعَوْتَني سمعتُ صوتاً يقول: أجبْ روحَ الله فظننتُ أن الساعةَ قد قامت فمِنْ هِولِ ذلك شِبْتُ فسأله عن النزْع قال: يا روحَ الله إن مرارتَه لم تذهَبْ من حَنْجَرَتي وكان بينه وبين موته أكثرُ من أربعةَ آلافِ سنةٍ وقال للقوم: صدِّقوه فإنه نبيُّ الله فآمن به بعضُهم وكذبه آخرون، فقالوا: هذا سحرٌ فأرِنا آيةً فقال: يا فلان أكلتَ كذا ويا فلان خُبِىءَ لك كذا وذلك قولُه تعالى: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} أي بالمغيَّبات من أحوالكم التي لا تشكّون فيها، وقرئ {تَذْخَرون} بالذال والتخفيف {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من الأمور العِظام {لآيَةً} عظيمةً وقرئ {لآياتٍ} {لَكُمْ} دالةً على صِحة رسالتي دَلالةً واضحة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} جوابُ الشرطِ محذوفٌ لانصباب المعنى إليه أو دِلالةِ المذكورِ عليه أي انتفعتم بها، أو إن كنتم ممن يتأتَّى منهم الإيمانُ دلَّتْكم الآية على صحة رسالتي والإيمانِ بها.

.تفسير الآية رقم (50):

{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)}
{وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} عطفٌ على المضمر الذي تعلَّق به قولُه تعالى: {بآيَةٍ} أي قد جئتُكم ملتبساً بآية إلخ ومصدِّقاً لما بين يديَّ إلخ أو على {رَسُولاً} على الأوجه الثلاثةِ فإن مصدِّقاً فيه معنى النُطقِ كما في رسولاً، أي ويجعله مصدِّقاً ناطقاً بأني أُصَدِّق إلخ أو ويقول: «أُرسلتُ رسولاً بأني قد جئتُكم» إلخ و«مصدقاً» إلخ أو حالَ كونه «مصدقاً بأني أُصدّق» إلخ أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ دلَّ عليه «قد جئتُكم مصدقاً» إلخ وقولُه: {مِنَ التوراة} إما حالٌ من الموصول والعاملُ {مُصَدّقاً} وإما من ضميره المستترِ في الظرف الواقعِ صلةً والعاملُ الاستقرارُ المُضْمرُ في الظرف أو نفسُ الظرف لقيامه مَقامَ الفعل {وَلاِحِلَّ لَكُم} معمولٌ لِمُضمرٍ دل عليه ما قبله أي «وجئتكم لأُحِل» إلخ وقيل: عطفٌ على معنى مصدقاً كقولهم: جئتُه معتذراً ولأجتلِبَ رضاه كأنه قيل: «قد جئتُكم لأصدِّق ولأحِل» إلخ وقيل: عطفٌ على {بِآيَةٍ} أي «قد جئتُكم بآية من ربكم ولأُحِلَّ لكم» {بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام من الشحومِ والثُروبِ والسمكِ ولحومِ الإبلِ والعملِ في السبت، قيل: أحَلَّ لهم من السمك والطير ما لا صئصئة له، واختلف في إحلال السبت، وقرئ حَرَّم على تسمية الفاعل وهو ما بين يديّ أو الله عز وجل، وقرئ {حَرُم} بوزن كَرُم وهذا يدل على أن شرعَه كان ناسخاً لبعض أحكام التوراةِ ولا يُخِل ذلك بكونه مصدِّقاً لها لما أن النسخَ في الحقيقة بيانٌ وتخصيصٌ في الأزمان، وتأخيرُ المفعول عن الجارِّ والمجرور لما مر مراراً من المبادرة إلى ذكر ما يسُرُّ المخاطَبين وللتشويق إلى ما أُخِّر {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} شاهدةٍ على صحة رسالتي وقرئ {بآيات} {فاتقوا الله} في عدم قَبولها ومخالفةِ مدلولها {وَأَطِيعُونِ} فيما آمرُكم به وأنهاكم عنه بأمر الله تعالى وتلك الآية هي قولي:

.تفسير الآيات (51- 52):

{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}
{إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} فإنه الحقُّ الصريحُ الذي أجمع عليه الرسلُ قاطبةً فيكون آيةً بيِّنة على أنه عليه الصلاة والسلام من جملتهم وقرئ {إِنَّ الله} بالفتح بدلاً من آية أي «قد جئتكم بآية على أن الله ربي وربُّكم» وقولُه: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} اعتراض، والظاهرُ أنه تكريرٌ لما سبق، أي «قد جئتكم بآية بعد آية مما ذكرتُ لكم من خلق الطير وإبراءِ الأكمهِ والأبرصِ والإحياءِ والإنباءِ بالخفيات وغيرِه من ولادتي بغير أبٍ ومن كلامي في المهد وغير ذلك»، والأولُ لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رُتّب عليه بالفاء قولُه: {فاتقوا الله} أي «لِمَا جئتُكم بالمعجزات الباهرةُ والآياتِ الظاهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعونِ فيما أدعوكم إليه» ومعنى قراءةِ من فتح: «ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه» كقوله تعالى: {لإيلاف قُرَيْشٍ} إلخ ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال: {إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ} إشارةً إلى أن استكمالَ القوةِ النظريةِ بالاعتقاد الحقِّ الذي غايتُه التوحيدُ وقال: {فاعبدوه} إشارةً إلى استكمال القوةِ العمليةِ فإنه يلازِمُ الطاعة التي هي الإتيانُ بالأوامر والانتهاءُ عن المناهي ثم قرر ذلك بأن بيّن أن الجمعَ بين الأمرين هو الطريقُ المشهودُ له بالاستقامة، ونظيرُه قوله عليه الصلاة والسلام: «قُلْ آمَنْتُ بالله ثم اسْتَقِمْ» {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} شروعٌ في بيان مآلِ أحوالِه عليه السلام إثرَ ما أشير إلى طرَفٍ منها بطريق النقلِ عن الملائكة، والفاءُ فصيحة تُفصِحُ عن تحقُّق جميعِ ما قالته الملائكةُ، وخروجُه من القوة إلى الفعل حسبما شرحتُه كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} بعد قوله تعالى: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ} كأنه قيل: فحمَلته فولدتْه فكان كيتَ وكيت وقال: ذيتَ وذيت وإنما لم يذكُرْه اكتفاءً بحكاية الملائكةِ وإيذاناً بعدم الخُلْفِ وثقةً بما فُصّل في المواضع الأُخَرِ. وأما عدمُ نظمِ بقية أحوالِه عليه الصلاة والسلام في سلك النقلِ فإما للاعتناء بأمرِها أو لعدم مناسبتها للمقام فيها من ذكر مُقاساتِه عليه الصلاة والسلام للشدائد ومعاناتِه للمكايد، والمرادُ بالإحساس الإدراكُ القويُّ الجاري مَجرَى المشاهدةِ، وبالكفر إصرارُهم عليه وعتوُّهم ومكابرتُهم فيه مع العزيمة على قتله عليه الصلاة والسلام كما ينبىء عنه الإحساسُ فإنه إنما يُستعمل في أمثال هذه المواقعِ عند كونِ مُتعلّقِه أمراً محذوراً مكروهاً كما في قوله عز وجل: {فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ} وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ بأحسّ والضميرُ المجرورُ لبني إسرائيلَ أي ابتدأ الإحساسَ من جهتهم، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لما مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر، وقيل: متعلقةٌ بمحذوف وقعَ حالاً من الكفر {قَالَ} أي لِخُلّصِ أصحابِه لا لجميعِ بني إسرائيلَ لقوله تعالى: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ} الآية. وقوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله كَمَا} ليس بنص في توجيه الخطابِ إلى الكل بل يكفي فيه بلوغُ الدعوة إليهم {مَنْ أَنصَارِى} الأنصارُ جمع نصير كأشراف جمع شريف.
{إِلَى الله} متعلقٌ بمحذوف وقعَ حالاً من الياء أي مَنْ أنصاري متوجهاً إلى الله ملتجئاً إليه أو بأنصاري متضمناً معنى الإضافةِ كأنه قيل: «مَنِ الذين يُضيفون أنفسَهم إلى الله عز وجل ينصُرونني كما ينصُرني» وقيل: {إلى} بمعنى في، أي في سبيل الله وقيل: بمعنى اللام وقيل: بمعنى مع {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ينساقُ إليه الذهنُ كأنه قيل: فماذا قالوا في جوابه عليه الصلاة والسلام؟ فقيل قال: {الحواريون} جمعُ حَواريّ يقال: فلان حَواري فلان أي صفوتُه وخالصتُه من الحَوَر وهو البياضُ الخالص ومنه الحوارياتُ للحَضَريات لخُلوص ألوانِهن ونقائِهن، سُمّي به أصحابُ عيسى عليه الصلاة والسلام لخُلوص نياتِهم ونقاءِ سرائرِهم، وقيل: لِمَا عليهم من آثار العبادةِ وأنوارِها، وقيل: كانوا ملوكاً يلبَسون البياضَ وذلك أن واحداً من الملوك صنعَ طعاماً وجمع الناسَ عليه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام على قصعةٍ لا يزال يأكلُ منها ولا تنقُص، فذكروا ذلك للملك فاستدعاه عليه الصلاة والسلام فقال له: من أنت؟ قال: «عيسى بن مريم»، فترك مُلكَه وتبِعه مع أقاربه فأولئك هم الحَواريون، وقيل: كانوا صيادين يصطادون السمكَ يلبَسون الثيابَ البيض فيهم شمعونُ ويعقوبُ ويوحنا فمرّ بهم عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم: «أنتم تصيدون السمكَ فإن اتبعتموني صَرْتم بحيث تصيدون الناسَ بالحياة الأبدية» قالوا: من أنت؟ قال: «عيسى بنُ مريم عبدُ اللَّه ورسولُه» فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعونُ قد رمى شبكتَه تلك الليلةَ فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى عليه الصلاة والسلام بإلقائها في الماء مرةً أخرى ففعل فاجتمع في الشبكة من السمك ما كادَتْ تتمزقُ واستعانوا بأهل سفينةٍ أخرى وملأوا السفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام وقيل: كانوا اثنيْ عشرَ رجلاً آمنوا به عليه الصلاة والسلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا: جُعْنا يا روحَ الله فيضرِب بيده الأرضَ فيخرُجُ منها لكل واحد رغيفان، وإذا عطِشوا قالوا: عطِشنا فيضرب بيده الأرضَ فيخرُج منها الماءُ فيشربون فقالوا: من أفضلُ منا؟ قال عليه الصلاة والسلام: أفضلُ منكم من يعمل بيدِه ويأكلُ من كَسْبه فصاروا يغسِلون الثيابَ بالأُجرة فسُمّوا حَواريين. وقيل: إن أمَّه سلّمتْه إلى صبّاغ فأراد الصباغُ يوماً أن يشتغل ببعض مَهمَّاتِه فقال له عليه الصلاة والسلام: هاهنا ثيابٌ مختلفة قد جَعَلْتُ لكل واحدٍ منها علامةً معينةً فاصبِغْها بتلك الألوانِ، فغاب فجعلها عليه الصلاة والسلام كلَّها في جُبَ واحدٍ وقال: كوني بإذن الله كما أُريد فرجع الصبَّاغُ فسأله فأخبره بما صنع فقال: أفسدتَ عليّ الثيابَ قال: قمْ فانظرْ فجعل يُخرِجُ ثوباً أحمرَ وثوباً أخضرَ وثوباً أصفرَ إلى أن أخرج الجميعَ على أحسنِ ما يكون حسبما كان يريد فتعجَّبَ منه الحاضرون وآمنوا به عليه الصلاة والسلام وهم الحواريون، قال القفالُ: ويجوزُ أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثنيْ عشرَ من الملوك وبعضُهم من صيادي السمك وبعضُهم من القصّارين وبعضُهم من الصبَّاغين والكلُّ سُمّوا بالحَواريين لأنهم كانوا أنصارَ عيسى عليه الصلاة والسلام وأعوانَه والمخلِصين في طاعته ومحبتِه.
{نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي أنصار دينه ورسولِه {آمنَّا بالله} استئنافٌ جارٍ مَجرى العلةِ لما قبله فإن الإيمانَ به تعالى موجبٌ لنُصرة دينِه والذبِّ عن أوليائه والمحاربةِ مع أعدائه {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مخلِصون في الإيمانِ منقادون لما تريد منا من نُصرتك، طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الشهادةَ بذلك يومَ القيامة يوم أُشهِدَ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام لأُممهم وعليهم إيذاناً بأن مرمى غرضِهم السعادةُ الأخروية.

.تفسير الآيات (53- 54):

{رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}
{رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ} تضرّعٌ إلى الله عز وجل وعرْضٌ لحالهم عليه تعالى بعد عرضِها على الرسول مبالغةً في إظهار أمرِهم {واتبعنا الرسول} أي في كل ما يأتي ويذرُ من أمور الدينِ فيدخُل فيه الاتّباعُ في النُّصرة دخولاً أولياً {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي مع الذين يشهدون بوحدانيتك أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام فإنهم شهداءُ على الناس قاطبةً، وهو حالٌ من مفعول اكتبنا.
{وَمَكَرُواْ} أي الذين علِمَ عيسى عليه الصلاة والسلام كفرَهم من اليهود بأن وكلّوا به من يقتُله غِيلةً {وَمَكَرَ الله} بأن رفعَ عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شَبَهَه على من قصد اغتيالَه حتى قُتل، والمكرُ من حيث أنه في الأصل حيلةٌ يُجلَب بها غيرُه إلى مَضرّة لا يمكن إسنادُه إليه سبحانه إلا بطريق المشاكلة، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ملِكَ بني إسرائيلَ لما تصد قتلَه عليه الصلاة والسلام أمره جبريلُ عليه الصلاة والسلام أن يدخُلَ بيتاً فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملكُ لرجل خبيثٍ منهم: أدخُل عليه فاقتُله فدخل البيت، فألقى الله عز وجل شَبَهَه عليه فخرج يُخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وقيل إنه عليه الصلاة والسلام جمع الحواريين ليلةً وأوصاهم ثم قال: «لَيَكفرَنّ بي أحدُكم قبل أن يَصيح الديكُ ويَبيعَني بدراهِمَ يسيرة» فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهودُ تطلُبه فنافق أحدُهم فقال لهم: ما تجعلون لي إن دَلَلْتُكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فألقى الله عز وجل عليه شبهَ عيسى عليه الصلاة والسلام ورفعه إلى السماء فأخذوا المنافِقَ وهو يقول: أنا دليلُكم فلم يلتفتوا إلى قوله وصَلَبوه ثم قالوا: وجهُه يُشبه وجهَ عيسى وبَدَنُه يشبه بدنَ صاحبِنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبُنا وإن كان صاحِبَنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيم وقيل: لما صُلب المصلوب جاءت مريمُ ومعها امرأةٌ أبرأها الله تعالى من الجنون بدعاء عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلتا تبكِيان على المصلوب فأنزل الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام فجاءهما فقال: علام تبكيان؟ فقالتا: عليك فقال: إن الله تعالى رفعني ولم يُصِبني إلا خيرٌ وإن هذا شيءٌ شُبِّه لهم. قال محمد بنُ إسحاقَ: إن اليهودَ عذبوا الحواريين بعد رفعِ عيسى عليه الصلاة والسلام ولقُوا منهم الجَهْدَ فبلغ ذلك ملكَ الرومِ وكان ملكُ اليهود من رعيته فقيل له: إن رجلاً من بني إسرائيلَ ممن تحت أمرِك كان يخبرهم أنه رسولُ الله وأراهم إحياءَ الموتى وإبراءَ الأكمهِ والأبرص وفعل وفعل فقال: لو علِمْتُ ذلك ما خلَّيْتُ بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم، وسألهم عن عيسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوبَ فغيّبه وأخذ الخشبةَ فأكرمها ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصلُ النصرانيةِ في الروم ثم جاء بعده ملِكٌ آخرُ يقال له: تيتوس وغزا بيتَ المقدس بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بنحوٍ من أربعين سنةً فقتلَ وسبَى ولم يترُكْ في مدينة بيتِ المقدسِ حجراً على حجر، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز.
قال أهلُ التواريخ: حملت مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ ثلاثَ عشرةَ سنةً وولدته ببيتَ لَحْمَ من أرض «أورى شلم» لمُضيِّ خمسٍ وستين سنةً من غلبة الإسكندرِ على أرض بابلَ، وأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثينَ سنةً ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً وعاشت أمُه بعد رفعِه ستَّ سنين {والله خَيْرُ الماكرين} أقواهم مكراً وأنفذُهم كيداً وأقدرُهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، وإظهارُ الجلالة في موقع الإضمارَ لتربية المهابة، والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله.